الذكاء الاصطناعي يقود قاطرة التنوع الاقتصادي في الامارات
جمال أبوعلي - أحد مستشفيات أبوظبي، عاصمة دولة الامارات، يقوم فريق طبي بتحليل نماذج رقمية ثلاثية الابعاد لأعضاء الجسم الداخلية لاحد المرضى مثل الرئتين والكبد، حيث تم تجهيز هذه النماذج باستخدام تقنية الذكاء الصناعي لتساعد الفريق الطبي في عمل تقييم استباقي لحالة تلك الاعضاء واجراء العلاج الجراحي الانسب للمريض بدقة عالية تتفوق على الاسلوب الطبي التقليدي للتعامل مع تلك الحالة.
وفي مطار دبي، كما في مطار أبوظبي أيضا، يعبر آلاف المسافرين يوميا من والى دولة الامارات عبر بوابات الكترونية تعمل بخاصية التعرف على الوجه والقراءة الرقمية لجوازات السفر، دون أي تدخل بشري، ودون الحاجة للتعامل المباشر مع أي موظف للتحقق من هويات المسافرين أو ختم جوازاتهم.
كما يستعين موظفون في هيئات ومؤسسات اماراتية مثل وزارة الخارجية، ووزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، وشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، وطيران الاتحاد، يستعينوا في أعمالهم اليومية بتطبيق الذكاء الاصطناعي اللغوي المبتكر للغة العربية المسمى "جيس" الذي أطلقته أبوظبي في أغسطس 2023، ويعد الأعلى جودة على مستوى العالم، ويخدم 400 مليون ناطق باللغة العربية، ويحاكي تطبيق "تشات جي بي تي" (ChatGPT) باللغة الانجليزية.
هذه أمثلة من قائمة طويلة وممتدة للطرق والأساليب التي توظف فيها دولة الامارات تقنيات الذكاء الصناعي لتحسين الاداء وتعزيزالانتاجية وتوفير الوقت وتقليل التكاليف في شتى المجالات، بما فيها الصحية والامنية والسياحية والتعليمية والخدمية، وغيرها، وهو ما ينسجم مع الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة التي تبنتها الامارات وتُركّز على الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط، ببناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم، من خلال الاستفادة من الثورة الصناعية الرابعة لتعزيز التحول الصناعي الشامل وترسيخ اقتصاد معرفي تنافسي ومستدام قائم على التكنولوجيا المتقدمة والصناعات المرتبطة بها.
وقد جعلت الامارات الذكاء الاصطناعي في صميم رؤيتها الاستشرافية للمستقبل "مئوية الامارات 2071" باعتباره رافدا مهما لتحقيق تلك الرؤية التي تهدف لجعل الامارات واحدة من أفضل البلدان وأكثرها إبداعًا ونموا على مستوى العالم، ولا سيما في ظل تقديرات الدراسات العالمية ومن ضمنها شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PWC) التي أشار تقرير أصدرته في فبراير 2022 الى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في ضخ حوالي 96 مليار دولار أمريكي في الاقتصاد الوطني بحلول عام 2035، وأن تبلغ مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي للدولة نحو 14٪ بحلول نهاية العقد، في حين أوضح تقرير أصدرته غرفة دبي للاقتصاد الرقمي مطلع هذا العام الى أن الاقتصاد الرقمي الوطني سيحقق نموا كبيرا لتتجاوز قيمته 140 مليار دولار أمريكي في 2031 ، مقارنة بحوالي 38 مليار دولار في الوقت الحالي.
لذا كانت الامارات في طليعة الدول العربية ومن الدول الاوائل في العالم التي شرعت في وضع خطط واستراتيجيات تركز على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والانظمة الذكية والاتمتة، وذلك منذ العام 2001 عندما اعلنت عن تطبيق نظام "الحكومة الالكترونية" لتكون أول دولة في المنطقة تطبق ذلك النظام، ليتم بعد ذلك التحول الى نظام "الحكومة الذكية" في 2013 في سابقة أخرى في المنطقة، حيث نجحت في اتمام التحول الكلي لنظام "الحكومة الذكية" عام 2015.
ولكن العلامة الفارقة والأهم في توجه البلاد لتوظيف الذكاء الاصطناعي لدعم خطط التحول الصناعي والتجاري الشاملة وتعزيز التنوع الاقتصادي كانت في أكتوبر 2017، حيث أطلقت الامارات "الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي" لتجسّد خطط وأهداف الدولة بأن تصبح مركزا عالميا رائدا في هذا المجال بحلول عام 2031، كما قامت في السنة ذاتها بتعيين أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم، بالاضافة الى تشكيل الحكومة "مجلس الإمارات للذكاء الاصطناعي والتعاملات الرقمية" في 2018 لتعزيز استخدامات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتعاملات الرقمية في مختلف القطاعات ومجالات العمل، وذلك من خلال دعم جهود تبادل المعرفة والخبرات في هذا المجال، ووضع السياسات التي من شأنها ترسيخ بيئة محفزة على الابتكار، واستقطاب المواهب والخبرات العالمية والوطنية، وتشجيع الدراسات والأبحاث المتقدمة والتخصصية في مختلف مجالات الذكاء الاصطناعي والتعاملات الرقمية.
وتبع ذلك تأسيس وزارة جديدة للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة في عام 2020، وذلك استنادا الى مفاهيم الثورة الصناعية الرابعة " الصناعة 4.0" لتحويل القطاع الصناعي في الامارات إلى قطاع صناعي ذكي بادماج تقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والتوأمة الرقمية، والصناعة الثلاثية الأبعاد، وغيرها من التقنيات، مع التركيز على قطاعات مستقبلية أبرزها صناعات الفضاء والأقمار الصناعية، والطاقة النظيفة والمتجددة، والصناعات الثقيلة، والبتروكيماويات، والتكنولوجيا الزراعية، والصناعات الدفاعية، والمنتجات الصيدلانية واللقاحات، والاجهزة والمعدات الطبية. وضمن سعي وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة لتوفير حلول التمويل لدعم التحول نحو الصناعة المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة تعاونت الوزارة مع "مصرف الإمارات للتنمية" الذي خصص حوالي 1.5 مليار دولار لدعم عمليات التحول الرقمي في المصانع بدولة الامارات وتحفيز نمو قطاع صناعات المستقبل.
من جهته، أطلق مكتب تنمية الصناعة ذراع دائرة التنمية الاقتصادية – أبوظبي العديد من المبادرات مثل تأسيس "مركز تمكين التصنيع الذكي" لدعم التحول إلى تقنيات ومناهج الثورة الصناعية الرابعة، وبرنامج "محفزات التصنيع الذكي" لدعم التحول الرقمي للشركات الصغيرة والمتوسطة العاملة في القطاع الصناعي عبر تبنى أساليب وعمليات تصنيع ذكية، وبرنامج تطوير سلسلة القيمة لتحسين وتعزيز بيئة الاستثمار في القطاع الصناعي، ومبادرة "رواد التكنولوجيا" لتزويد العاملين في الصناعات الغذائية في أبوظبي بمهارات الثورة الصناعية الرابعة وتطوير قدراتهم المعرفية والتكنولوجية.
وفضلا عن تعزيز البنى المؤسسية واللوجستية والتمويلة لدعم خطط ادماج الذكاء الاصطناعي في الاستراتيجيات الصناعية والتجارية في الدولة، حرصت الامارات على تنمية الكوادر البشرية المحلية وبناء جيل من المتخصصين المواطنين المؤهلين في مجال الذكاء الاصطناعي، واستقطاب الخبرات والباحثين من أبرز المؤسسات العالمية هذا المجال، حيث قامت بتأسيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي MBZUAI في 2019 في أبوظبي لتكون أول جامعة متخصصة في الدراسات العليا البحثية في الذكاء الاصطناعي في العالم،والتي نجحت باستقطاب 52 من أفضل الباحثين الذين انضموا إلى هيئتها التدريسية، أكثر من نصفهم عملوا في أفضل 100 مؤسسة للذكاء الاصطناعي في العالم. وبعد سنوات قليلة من تأسيسها، احتلت جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي المرتبة 19 عالمياً على قائمة سي إس رانكينغ (CSRankings) العالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية وتعلم الآلة، متقدمة بذلك على العديد من الجامعات البحثية الشهيرة مثل جامعة ميشيغان، وجامعة تورنتو، وجورجيا تك، وإمبريال كوليدج لندن، وجامعة طوكيو، وجامعة سيدني.
وبالاضافة الى البرامج الدراسية العليا التي تقدمها الجامعة للطلاب المنتسبين لها، تقوم الجامعة بدور محوري في بناء قدرات قادة المؤسسات الصناعية من القطاعين العام والخاص والمسؤولين الحكوميين باكسابهم المعرفة اللازمة لدمج حلول الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة في الخطط التشغيلية للمصانع والمؤسسات والهيئات المختلفة في الدولة، حيث شارك مئات من القادة والمسؤولين في البرنامج المتخصص "القيادة 4.0" الذي يركز على تمكين المشاركين من الاسهام في تعزيز اداء وتنافسية القطاعات الاقتصادية والحكومية المختلفة وزيادة القدرة الانتاجية وتحسين الجودة وتمتين التعاون بين مختلف القطاعات بما يدعم الابتكار في دولة الإمارات ويعزز الجهود الرامية لتنمية وتنويع الاقتصاد الوطني.
كما ينظم البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي برنامج تدريب صيفي لطلاب الجامعات والمدارس باسم "مخيم الإمارات للذكاء الاصطناعي"، وذلك بالتعاون مع العديد من كيانات القطاعين العام والخاص، وبتنفيذ كبار شركاء التكنولوجيا العالميين، بهدف توسيع قاعدة المستفيدين من جهود نقل المعرفة، وبناء جيل قادر على تبني التقنيات الحديثة في تطوير الحلول واستشراف العالم التكنولوجي والتعمق في مجالات المستقبل. وقد وصل عدد المشاركين في المخيم منذ اطلاقه في 2018 الى أكثر من 22 ألف طالب وطالبة.
ويذكر ان هذه الخطط والجهود قد أسهمت بصورة ملحوظة في تبني الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الاقتصادية والحكومية المختلفة، فعلى سبيل المثال أوضحت احصائية صدرت عن شركة داتايكو (Dataiku) الامريكية المتخصصة في الذكاء الصناعي في شهر مايو 2023 أن 75% من الشركات والمؤسسات في الامارات استمرت في تثبيت أو زيادة الميزانيات المخصصة للاستثمار في برامج وأدوات الذكاء الاصطناعي في عملياتها التشغيلية. كما أظهرت دراسة أجرتها شركة "كورسيرا"، إحدى أكبر منصات التعليم عبر الإنترنت في العالم، بالتعاون مع مجموعة "يوجوف" المتخصصة بأبحاث السوق وتحليل البيانات أن نحو 83 % من شركات الإمارات أبدت استعدادها لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في عملياتها التشغيلية. وأشارت الدراسة التي نشرت في يوليو 2023 وشملت أكثر من 500 من قادة الأعمال وصناع القرار في الإمارات أن 82 % من هذه الشركات بدأت فعلياً بتوظيف هذه التقنيات في خدماتها وبرامجها الحالية، مع إشارة 51 % منها إلى استخدام التقنيات بشكل مكثف في مختلف مهامهم.
وبعد أقل من سنة من اطلاق حكومة الامارات في يوليو 2022 مبادرة "الجيل التالي من الاستثمارات الأجنبية" العالمية "NextGenFDI" لاستقطاب الشركات الرقمية العالمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي وتطبيقات التكنولوجيا المتقدمة في مختلف القطاعات، وصل عدد الشركات التي استقطبتها الامارات في مايو 2023 الى 80 شركة متعددة الجنسيات وذات سمعة عالمية من بلدان مختلفة وفي قطاعات تقنية متعددة تشمل تطوير البرمجيات، وتحليل البيانات، والتكنولوجيا المالية، والتكنولوجيا الزراعية، وتكنولوجيا الأغذية، وتكنولوجيا النقل، والتكنولوجيا الصحية، وتكنولوجيا التعليم، والعملات المشفرة. وتهدف مبادرة "NextGenFDI لاستقطاب 300 شركة عالمية من هذا النوع لنقل المعرفة والخبرات في هذه القطاعات إلى دولة الإمارات وتعزيز الابتكار ودعم خطط التنوع الاقتصادي.
كما عزز تلك المبادرة اطلاق شركة "جي 42" (G42) المتخصصة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية التي مقرها أبوظبي والمدعومة من "مبادلة للاستثمار" صندوقا بقيمة 10 مليارات دولار وذلك بالشراكة مع "صندوق أبوظبي للنمو" (ADG) بهدف الاستثمار في الشركات البارزة ذات التقنيات الثورية في قطاعات تشمل الاتصالات والتنقل الذكي والطاقة المتجددة والرعاية الصحية.
وقد أسهمت كل تلك الجهود التي تندرج ضمن "الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة" بشكل فاعل في تمكين منظومة اقتصاد وطني يتسم بالمرونة والتنوع، من خلال تحفيز الصناعات الوطنية التي تتبنى الابتكار وتوظف التكنولوجيا الحديثة في الأنظمة والحلول الصناعية، وتنتج منتجات وخدمات ذات جودة عالية بكفاءة تشغيلية فعالة وتكلفة منافسة. وتعكس الاحصاءات ذات الصلة حجم الانجازات والنجاحات التى تم احرازها، حيث حققت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي مستوى قياسيا وصل إلى 49.5 مليار دولار عام 2022، مقارنةً بـ 36 مليار دولار في عام 2020، وبلغت نسبتها 30% من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي. وبلغت قيمة الصادرات الصناعية الإماراتية 47.6 مليار دولار، بنسبة نمو وصلت إلى 49 في المائة مقارنة بعام 2020. كما تم تأسيس 263 مصنعاً جديداً العام الماضي بدأت جميعها الإنتاج الفعلي. وأسهمت تلك الانجازات في تقدم دولة الإمارات في مؤشر التنافسية الصناعية من المركز 35 إلى المركز 30 عالميا وفقا لتصنيفات "منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية" (UNIDO).
وتركز الامارات خلال السنوات القادمة على تحقيق مزيد من التقدم في تطوير المعرفة والمهارات والامكانات البشرية والفنية في استخدام الذكاء الاصطناعي وتسخيره لتحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة، وإحداث تغييرات ثورية ايجابية في مختلف القطاعات، وتحويل أنماط الحياة لضمان مزيد من الرخاء والتقدم للامارات وشعبها والبشرية كافة. وقد عبر رئيس دولة الامارات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان عن ذلك بقوله: "إن دولة الإمارات تعزز موقعها في تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، واستشراف مستقبلها، وتوجيهها إلى خدمة الإنسان وتقدمه ورفاهيته، وتؤمن بأن قيمة التكنولوجيا تكمن في قدرتها على تغيير حياة البشر إلى الأفضل".