صناديق الاستثمار الجريء في الاقتصادات العربية ...  فرص وتحديات

جمال أبوعلي - "لقد ذهبنا الى سان فرانسيسكو عام 2017 نبحث عنهم ...أما الان فهم جميعهم جاؤوا يبحثون عنا". هذه العبارة قالها رئيس وحدة الاستثمار في الشركات الناشئة لدى شركة مبادلة للاستثمار الاماراتية، إبراهيم عجمي، لوصف التغير االكبير الذي طرأ على مشهد الاستثمار الجريء المؤسسي (Venture Capital) في المنطقة، والذي حدا بالعديد من شركات وادي السليكون (Silicon Valley) الاستثمارية الامريكية الكبرى، وغيرها من صناديق الاستثمار من أرجاء أخرى من العالم الى التوافد الى منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، سعيا وراء الفرص التمويلية الاستثمارية الجذابة التي تزخر بها المنطقة لتمويل الشركات الناشئة، ولا سيما في ظل الظروف الاقتصادية العالمية غير المواتية التي نتج عنها أسوأ أزمة تمويل شهدها العقد الحالي، وتسببت بتقليص الموارد المتاحة لقطاع الاستثمار الجريء المؤسسي (Corporate Capital Venture) في العالم بشكل عام.

وقد جاءت تلك المقولة للمسؤول في شركة مبادلة للاستثمار في تقرير نشرته صحيفة الفايننشال تايمز في ابريل الماضي ورصدت فيه توافد عدد كبير من مسؤولي أبرز شركات الاستثمار الجريء الى دول مثل الامارات والسعودية وقطر، ومن ضمن تلك الشركات شركة أندريسن هورويتز (Andreessen Horowitz) التي تعد الشركة الاكبر في العالم في هذا المجال من حيث قيمة الاصول التي تملكها، وشركات أخرى بارزة مثل تايغر غلوبال (Tiger Global)، وآي في بي (IVP)، وغيرها.

ولإدراك حجم ذلك التحول يكفي مثلا ان نعلم أنه قبل أقل من ربع قرن، وبالتحديد في عام 2000 كان يوجد في الولايات المتحدة الامريكية أكثر من 1,700 شركة تمتلك وحدات للاستثمار الجريء المؤسسي، في حين لم يتجاوز عدد تلك الشركات في دولة الامارات 6 شركات فقط. أما اليوم وصل عدد صناديق الاستثمار الجريء في الامارات لأكثر من 500 صندوقا، استفادت منها ما يزيد عن 7 آلاف شركة ناشئة.

كما توضح التقارير الصادرة عن مؤسسات متخصصة النمو الكبير الذي حققته منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في استقطاب الاستثمار الجريء لدعم الشركات الناشئة، حيث سجلت قيمة التمويل في العام 2022 مستوى غير مسبوق، اذ بلغت 3.2 مليار دولار أمريكي، بزيادة نسبتها 8 في المائة مقارنة بعام 2021. وجاءت الامارات في مقدمة دول المنطقة باستحواذها على 37 في المائة من تلك التمويلات، وبقيمة بلغت 1.19 مليار دولار، وتلتها السعودية بقيمة 987 مليون دولار، مسجلة نسبة 31 في المائة، فيما استمرت مصر بتحقيق نمو مستمر في استقطاب الاستثمار الجريء، حيث تجاوزت حاجز النصف مليار دولار للسنة الثانية على التوالي باستقطاب 517 مليون دولار.

ويعتبر هذا الوضع انعكاسا واضحا ونتيجة طبيعة للتحولات الاقتصادية والطفرة الكبيرة في مجال ريادة الاعمال التي شهدتها دول منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، حيث أطلقت تلك الدول، وفي مقدمتها الامارات والسعودية وقطر، خططا اقتصادية طموحة وشاملة، تركز على تنويع الاقتصاد، وخلق بيئات استثمارية مرنة وديناميكة، تستند الى أطر تنظيمية وادارية محدّثة وعصرية، بهدف استقطاب رأس المال الاستثماري، واطلاق القدرات الابداعية للشركات الناشئة التي تتبنى الابتكار وتكنولوجيات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.

ومن الامثلة البارزة على الدعم الحكومي المنهجي للشركات الناشئة في المنطقة تأسيس الشركة السعودية للاستثمار الجريء (SVC) في 2018 برأسمال 2 مليار دولار، حيث دعمت الشركة منذ تأسيسها 43 صندوقا استثماريا، استثمرت في أكثر من 700 شركة ناشئة ومنشأة صغيرة ومتوسطة.

وفي الامارات، تم تخصيص اكثر من 3.7 مليار دولار ضمن ما أطلق عليه "مشاريع الخمسين" لتطوير الاقتصاد وتعزيز تنافسيته وأدائه، حيث خصص نصف ذلك المبلغ لدعم المشاريع الناشئة للمواطنين الاماراتيين. ولم تقتصر المبادرات على الجهات والهيئات الحكومية، فعلى سبيل المثال قامت شركة الهلال للمشاريع (Crescent Enterprises) ومقرها الامارات بمضاعفة حجم التمويل الذي رصدته للاستثمار في الشركات الناشئة ليصل الى 272 مليون دولار، بعد أن نجحت باستثمار 136 مليون دولار في 32 من الشركات الناشئة وصناديق رأس المال الاستثماري في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والولايات المتحدة، والهند وجنوب شرق آسيا.

وبالرغم من بعض المؤشرات الاخيرة التي عكست نوعا من التباطؤ في استقطاب رأس المال الجريء في المنطقة في الاشهر العشرة الاولى من عام 2023 بسبب عوامل مختلفة تشمل معدلات الفائدة المرتفعة في الاقتصاد الامريكي، والتضخم العالمي، وانعكاس الاحداث الاخيرة في منطقة الشرق الاوسط على مستوى الثقة بشأن الاستقرار في المنطقة، وتراجع مستوى الوفورات النفطية لبعض الدول نتيجة انخفاض أسعار النفط مقارنة بالعام السابق، الا ان منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا مؤهلة لاستمرار الاتجاه التصاعدي لاستقطاب استثمارات رأس المال الجريء، وتعزيز مكانتها كوجهة مثالية للشركات الناشئة ورواد الاعمال المبدعين والمبتكرين.

وتستند النظرة المستقبلية الايجابية تجاه نمو الشركات الناشئة في المنطقة، واقبال صناديق الاستثمار الجريء على تمويل تلك الشركات الى العديد من المعطيات والدعائم القوية التي تشمل تحسّن البنى التحتية للاستثمار، والنمو المضطرد في عدد السكان والأيدي العاملة، وتميّز مجتمعات هذه الدول بكونها مجتمعات شابة ذات انتاجية عالية، وارتفاع مستوى التعليم، وتمتين خطط التحول الرقمي وتوظيف التكنولوجيا المتقدمة في الاعمال، وتعزيز ريادة الاعمال من خلال دعم منظومة الشركات الناشئة، واطلاق استراتيجيات حاضنات الاعمال والمسرّعات التنموية.

وبشكل عام، تعتبر اقتصادات دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا من الاسرع نموا في العالم،وهو ما تؤكده تقارير البنك الدولي التي توضح ان من ضمن الاقتصادات العشرة الاسرع نموا في العالم تقع ست منها في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهو ما يعزز مكانة المنطقة كوجهة مثالية جاذبة للاستثمار، ويجعلها تحظى باهتمام متزايد من قبل صناديق رؤس الاموال، لما توفره من فرص استثمارية واعدة، متنوعة، ومستدامة.

All Rights Reserved 2023